القاضي
سالم روضان الموسوي
العمل القضائي عمل فكري مبني على الاجتهاد لفض النزاعات التي تعرض على القضاء بالاستنباط من الاحكام القانونية النافذة، الا ان هذه القوانين محدودة العدد مهما كثرت وغير قادرة على استيعاب كل مفردات الحياة، لان مهمة ووظيفة القانون تنظيم العلاقات بين الاشخاص في كل مناحي الحياة، وبما ان الوقائع التي تحدث في الحياة اليومية للافراد والمجتمعات هي احداث غير متناهية العدد وهذا التباين بين محدودية النصوص القانونية والاحداث اللامتناهية،
ادى الى حدوث قصور في تنظيم بعض مفردات الحياة العامة او الخاصة، ولتداركه لابد من البحث عن طرق وسبل منها المعالجة عن طريق التشريع سواء باصدار تشريع ينظم الحالة او تعديل تشريع سابق او الغاءه وهذا السبيل فيه صعوبة في ظل اليات اصدار القوانين والشاهد على ذلك القوانين وعسر ولادتها في مجلس النواب الحالي والخلل الذي يعتريها من جهة الصياغة والوسيلة التي اتبعت في اصداره، مما لا يسعف الحال في معالجة المشكلة محل النزاع القضائي، ويوجد سبيل اخر وهو الاجتهاد القضائي حينما يجتهد القضائي باصداره الاحكام التي تفصل في المازعة بين الاطراف على الرغم من النقص التشريعي ويتلمس في ذلك كافة السبل منها الشرعية والاحكام القضائية السابقة ومبادئ العدالة وغيرها مما يوفر المكنة على ايجاد الحكم العادل وهذه مهمة القاضي في تطوير النص عبر القراءة المتجددة لأحكامه واستنباط الأحكام التي تنسجم وروح النص وغاية المشرع وحاجة المجتمع، وهذه مهمة كبيرة تولاها القضاء العراقي عبر العديد من أحكامه التي أصدرها تجاه حالات لم يرى في ظاهر النص حكم ينظمها إلا أن قدرة القاضي وحرفيته ومهنيته مكنته من استجلاء الغاية واستنباط الحكم وذلك عبر تاريخه منذ تشكيل المحاكم العراقية وحتى الآن، فضلا عن إلزام المشرع للقاضي العراقي بالأخذ في التفسير المتطور للنصوص القانونية على وفق حكم المادة (3) من قانون الإثبات رقم (107) لسنة 1979 المعدل التي جاء فيها (الزام القاضي باتباع التفسير المتطور للقانون ومراعاة الحكمة من التشريع عند تطبيقه) ، وفي القانون الجنائي يوجد استثناء اذ لا يجوز للقاضي ان يجرم فعل شخص الا بنص في القانون على وفق مبدأ لا عقوبة ولا جريمة إلا بنص، لان الامر يتعلق بالحرية الشخصية والحقوق الاساسية للانسان والاصل فيه البراءة ولافعاله الاباحة الا اذا وجدت الهيئة الاجتماعية ان ذلك الفعل او النشاط يشكل خرق للمنظومة الاجتماعية عند ذاك تصدر تشريعا يجرم فيه الفعل وتحدد له عقوبة،اما في العلاقات الحقوقية في الجانب المدني ،غير الجنائي، فان القاضي ملزم بالفصل في النزاع مسترشدا بالنصوص القانونية او المبادئ الشرعية والمصادر الاخرى التي وردت في حكم المادة (1) من القانون المدني العراقي رقم 40 لسنة 1951 التي جاء فيها (1 ـتسري النصوص التشريعية على جميع المسائل التي تتناولها هذه النصوص في لفظها او في فحواها.2 – فإذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه حكمت المحكمة بمقتضى العرف فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ الشريعة الاسلامية الاكثر ملائمة لنصوص هذا القانون دون التقيد بمذهب معين فإذا لم يوجد فبمقتضى قواعد العدالة. 3 – وتسترشد المحاكم في كل ذلك بالأحكام التي اقرها القضاء والفقه في العراق ثم في البلاد الاخرى التي تتقارب قوانينها مع القوانين العراقية.)، والمادة (1) من قانون الاحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 المعدل التي جاء فيها الاتي (1 ـ تسرى النصوص التشريعية في هذا القانون على جميع المسائل التي تتناولها هذه النصوص في لفظها او في فحواها 2 ـ اذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه فيحكم بمقتضى مبادئ الشريعة الاسلامية الاكثر ملائمة لنصوص هذا القانون 3 ـ تسترشد المحاكم في كل ذلك بالأحكام التي اقرها القضاء والفقه الاسلامي في العراق وفي البلاد الاسلامية الاخرى التي تتقارب قوانينها من القوانين العراقية ) ومن ذلك العرض نجد ان العمل القضائي بحاجة الى عقل قضائي يمتاز بالقدرة على التفكير القضائي والتمييز بين الاجتهاد تجاه النص والاجتهاد في النص، وادرك المجتمع والمشرع هذه الاهمية فاشترط شروط عدة يجب توفرها لمن يسعى لشغل المنصب قضائي سواء بالتعيين او تشكيل الهيئات القضائية وبُذِلت جهود كبرى لاعداد كوادر قضائية ترقى الى مستوى هذه المهمة الجسيمة استحدث المعهد القضائي بموجب القانون رقم 33 لسنة 1976 المعدل الذي تولى اعداد القاضي قبل ان يمارس عمله لمدة سنتين على وفق مناهج تدريسية وتدريبية، فضلا عن سعي مجلس القضاء الاعلى، وبعد نيله الاستقلال عن السلطة التنفيذية بموجب الامر 35 لسنة 2003، الى استحداث معهد التطوير القضائي لاستمرار تحديث معلومات القاضي بالمستجدات من خلال زجه بالدورات التطويرية فضلا عن الابتعاث الى الدول المتقدمة في المضمار القضائي وهذا النشاط بمجمله يهدف الى تطوير الفكر القضائي عند القاضي، الا ان ذلك العمل لم يصل بعد الى مستوى الطموح اذ نجد بعض المشتغلين في هذا الوسط يعمل على وفق ما خزنته ذاكرته من معلومات تلقاها وهو طالب في المعهد القضائي، كما اصبح البعض مرددا لاحكام محكمة التمييز دون ان يجهد نفسه في التقصي والبحث عن الحقيقة القضائية واستنباط الاحكام بالتكييف العلمي للوقائع مع النصوص القانونية النافذة، وارى ان السبب يكمن في آلية التدريب القضائي اذ يسعى بعض المدربين الى اسلوب التلقين بدلا من الجدل القانوني وهؤلاء مقلدين لغيرهم واقصد به اتباع السوابق القضائية دون وعي للظرف الاجتماعي وزمان السابقة مع تاريخ الواقعة محل النزاع او مراعاة تجدد المفاهيم القانونية والاجتماعية، اذ يتمسك البعض بحكم لسابقة قضائية من محكمة التمييز فيقلدها بالاتباع دون التحديث في آلية الاستنباط وعلى وفق ما تقدم، وكما اسلفت ان بعضهم يعتمد على ذاكرته التي احتشدت باراء اساتذته ومدرسيه الذين كانوا يتبعون طريقة التلقين وجعل المتدرب حافظ للنص فيتكلم بلسان غيره ويفكر بعقل غيره، لذلك يرى اهل الاختصاص في علم النفس ان اسلوب التلقين لا ينتج اشخاص مبدعين او مفكرين وانما خاملين لان الحفظ والتلقين يشلان ملكة الاستدلال ولا يستنهضان طاقاته الابداعية وعلى وفق ما ذكره الباحث صلاح الجابري في بحثه المنشور في مجلة قضايا اسلامية معاصرة السنة الثانية عشر العددان 37 ، 38 عام 2008 الموسوم (التطرف الديني والعنف)، لذلك فان هذا الشخص يعتمد الذاكرة دليلا لعمله ولا يعتد بالاستدلال الذي يحرك مكامن الابداع وينير درب البحث وينمي النص ويطوره، وبما ان النصوص القانونية معدودة والوقائع لا متناهية فذلك يدعونا الى ان نعمل على وفق الاستدلال القضائي ولا نعول كثيرا على الذاكرة دون ان نخضعها لقوانين التفكير القضائي وآلياته العاملة حتى نتمكن من مواكبة التطورات التي تحصل في الحياة من اجل مقاربة العدالة في الاحكام وخلق الاطمئنان لدى اطراف الدعوى القضائية .