القاضي المتقاعد

هادي عزيز علي

مقدمة

لأنظمة الحكم اشكال مختلفة ,تمليها ظروف وأوضاع واستحقاقات ومطالب , ترتبط بروابط معينة بين سكان هذه المنطقة أو تلك , وتؤسس على نوع العلاقات المشتركة للسكان المذكورين , وتظهر الحاجة الى تنظيم تلك العلاقات المبنية على أساس المصالح المشتركة بينهم ,والى ضرورة إيجاد نظام يمكن من خلاله تشكيل سلطة محلية تأخذ على عاتقها إدارة الشؤون المحلية لتلك المنطقة وفي سبيل ذلك فقد اتخذت الدول المختلفة أنظمة الحكم عديدة تراوحت بين المركزية والحكم الذاتي والفدرالية والكونفدرالية واللامركزية بصفتها الإدارية أو السياسية.

فالمركز تعني وجود سلطة واحدة في الدول المركزية ,وان توزعت الصلاحيات على ممثليها المنتشرين على مساحة الوطن, بغض النظر عن النظام السياسي رئاسياً كان أم برلمانياً, ولهذا الشكل من الإدارة مريديهوأنصاره, كما له خصومه ومعارضيه , وقد حفل فقه القانون الإداري وشراحه بالمزيد من الدراسات والبحوث في هذا المجال , إذا لا يتسع موضوعنا هذا سوى المرور عليها لمحدودية عنوان موضوعنا .

اما اللامركزية الإدارية فهي تعتمد على توزيع السلطة الإدارية بين حكومة المركز والمجالس المحلية في المحافظات المتشكلة عن طريق الانتخابات المعتبرة قانوناً, لذا فنظام الحكم هنا هو سلطة حقيقية مستمدة صلاحياتها عن طريق تلك الانتخابات , خلافاً للمركزية الإدارية التي يأخذ ممثليها الصلاحيات من السلطة المركزية , وهذا لا يعني أن السلطة المحلية في المحافظة تملك الاستقلال التام عن سلطة المركز على اعتبار انها سلطة حقيقية, بل أن تلك السلطة الممنوحة لها هي ضمن الدولة الواحدة وفي ذات الدولة اللامركزية, أي صلاحيات الدولة اللامركزية وصلاحيات الإدارة المحلية تتعاون وتتشارك في مساهمة مشتركة من دون المساس بالوطن ووحدته.

ورغم ان اللامركزية الإدارية تطبيقات عديدة في دول العالم نصت عليها تشريعاتها وأن القسم الغالب من فقه القانون الإداري يذهب مع هذا النظامإلا إننا نجد من يقول :- ( ان اللامركزية تبقى في جوهرها لا مركزية سياسية . وطالماركزنا في تحليل الدولة اللامركزية على تواجد السلطات وعلى تواجد الحكام فهي لا مركزية سياسية وتبقى كذلك ولن تكون لا مركزية "إدارية")(1), اي انكار لوجود اللامركزية الإدارية , ولما كانت تشريعاتنا قد تناولت هذا الموضوع بنصوص صريحة فلا مناص والحالة هذه من قراءتها والوقوف على أحكامها.

في معنى اللامركزية وركائزها

بينا ان اللامركزية الإدارية هي شكل من أشكال الحكم تتوزع فيه السلطات الإدارية بين الحكومة المركزية والسلطات المحلية المنتخبة بموجب أحكام القانون غايتها إدارة الشؤون المحلية وبالتعاون مع سلطة المركز . وبينا ان السلطة المحلية تستمد صلاحياتها من الانتخابات وليس بتفويض من المركز إليها ,وهذا المبدأ اعتمدته دول عدة لأسباب ,منها ان العبء الكبير الواقع على اكتاف السلطة المركزية يلجئها الى طلب مشاركات السلطات المحلية المنتخبة لتحمل جزء من ذلك العبء وهذا يعني إشراك الشعب في الأعباء العامة , إذ يمكن المجالس المحلية من الإدارة والإشراف والمراقبة للنشاطات والفعاليات المحلية , كما ان السلطات المحلية قريبة من مشاكلها المحلية وهي أدرى بها والأرجح لمعالجتها.

ان اللامركزية الإدارية هو بناء مؤسسي يحول دون تأسيس أنظمة مركزية تسعى للانفراد بالسلطة لتنعطف بعدئذ, نحو الدكتاتورية او التوتاليتارية ,إذ إن توزيع السلطات يمنع من تركز السلطة بيد فئة معينة او فرد , كما ان انتخاب مجالس المحافظات تؤدي الى ثقافة التداول السلمي للسلطة , إذ يتم انتقال السلطة الى الغير بشكل سلمي وسلس.

ان الوحدات الإدارية هي الأقرب التي تلمس همومها وأوجاعها ومتطلباتها وهي الأقدر على تذليل الصعاب وإيجاد الحلول المطلوبة وبدلا من إرسال تلك الهموم والأوجاع (معلبة)الى السلطة المركزية ,فأنها الأولى في التعامل معها.

ركائز اللامركزية الإدارية

الأولى :-

للمناطق المحلية أوضاع خاصة بها تتمثل بوجود روابط مشتركة ووشائج تشد السكان لبعضهم البعض مع وجود ظروف موضوعية خاصة بهذه المنطقة أو تلك وتجمعهم مصالح مشتركة نابعة عن بيئتهم ومن وسطهم المحلي ,يضعها في حالة تميز عما عداها من المناطق الأخرى, لذا فالحاجة ملحة الى تأسيس سلطة محلية تستجيب لهذه الأوضاع , وتتشكل من رحم المنطقة ذاتها- ومن سكانها المحليين - لذا فأن الإقرار من قبل السلطة المركزية بمطالب المناطق تلك امر يفرضه واقع الحال وهو استجابة لمطالب جماهيرية .

الثانية :-

وجود حكام محليين من تلك المناطق يمثلون سكانها ويعبرون عن مصالحهم ومطالبهم , ويتسلمون مواقعهم بطريق الانتخاب ويمنحون السلطات بناء على ذلك الانتخاب وبحدود تخويل الناخبين لهم , وليس تفويضاً لهم من قبل السلطة المركزية, أي أنهم ليسوا ممثلين لوزارات الدولة في مناطقهم , لكون سلطتهم أصلية مصدرها الانتخاب ,وحيث ان الأمر كذلك فهؤلاء المنتخبون هم الأقرب لتحسس معاناة مواطنيهم والأقدر على إيجاد الحلول للمشاكل المستوطنة ,على ان يكون ذلك في حدود التشريعات المركزية ,وبهذه الوسيلة تكون السلطة المحلية قد خطت الخطوة الأولى في بداية الطريق للديمقراطية.

الثالثة :-

وجوب خضوع السلطة المحلية الى القواعد والمبادئ التي تحددها السلطة المركزية (2), ولها أي السلطة المركزية حق مراقبة أنشطة السلطة المحلية وتقويم عملها وتصويب اخطائها وذلك للحيلولة دون خروج السلطة المحلية عن الصلاحيات الممنوحة أو اساءة استخدام السلطة , والعبرة من تخويل السلطة المركزية حق المراقبة في الدولة اللامركزية هو الحفاظ على وحدة الدولة وتماسكها.

هذه هي الركائز الثلاث التي استقر عليها فقه القانون الإداري وتشريعات الدول في الأنظمة التي تعتمد مبدأ اللامركزية الإدارية.

ولغرض الوقوف على التشريعات الصادرة خلال عمر الدولة العراقية ومدى قربها أو بعدها من نظامي المركزية الإدارية واللامركزية الإدارية وموقع السلطة القضائية منها , فسنحاول وباختصار قراءة تلك التشريعات ابتداء من اول قانون أصدرته الدولة العراقية ولغاية اخر تشريع أصدره مجلس النواب.

أولاً

نظام الحكم الإداري قبل تأسيس الدولة العراقية

وقع العراق تحت الحكم العثماني لمدة تقرب من اربعة قرون بدأت من القرن الميلادي 1532 ولغاية احتلال العراق من قبل بريطانيا 1917, وكانت الامبراطورية العثمانية تخضع لحكم السلاطين في اسطنبول , وتدار من قبلهم بواسطة الولاة المبعوثين الى تلك الولايات , إذ قسم العراق الى ثلاث ولايات وهي بغداد والموصل والبصرة, وكان الحكم يدار عن طريق الإدارة المركزية ,أي أن الولاة ممثلون للسلطان يطبقون خططه وبرامجه وهم طوع أمره , وقد كانت هناك محاولات مبتسرة لإدارة بعض الولايات بطريق الحكم الذاتي , الا أن وجود الولاة العثمانيين على رأس السلطة في تلك الولايات وخضوعهم لسلطة الباب العالي , الأمر الذي أبقاهم في خانة الإدارة المركزية رغم السعة الممنوحة لهم في الصلاحيات .

السلطة :قمة السلطة ترتبط به مجموعة من علماء المسلمين وشيوخه تأخذ على عاتقها تقديم المشورة لرأس السلطة وتمارس صلاحيات الافتاء والتنظير وتسمى هذه المجموعة بالهيئة العلمية , إذ أنيط بها أعمال عدة , وأن واحدا من تلك الأعمال كونها المرجعية الرسمية للقضاة , والمحاكم الشرعية التي تطبق أحكامها على وفق المذهب الحنفي لحسم المنازعات , إلا أن المنجز الحضاري في أوربا آنذاك وتمدده المستمر لأرجاء عديدة من العالم , وتبنيه نظاما ً تشريعياً ينسجم مع ذلك التطور , الأمر الذي أوقع الامبراطورية تحت ضغوط تلك التشريعات , مما دفع السلطان عبد المجيد لإصدار (الخط الهمايوني ) عام 1856م متأثرا بالقوانين الأوربية , وفي أثر الإصلاحات التي قام بها السلطان عبد الحميد الثاني عام 1880م بتشكيل المحاكم (النظامية) التي تنظر في الدعاوى الجزائية وبعض الدعاوى الحقوقية (3), وقد شكل هذا الأجراء الخطوة الأولى لمغادرة النظام القضائي العتيق وهيئته العلمية التي يرأسها شيخ الإسلام , وهكذا فقد استمرت وتيرة التحول في التشريعات المتعلقة بالمحاكم عبر السنين التالية لها , وقد نال ذلك التحول العراق باعتباره جزءاً من الامبراطورية العثمانية .

بتاريخ 11/أذار /1917 احتلت بريطانيا العراق , إذ ترك القضاة الأتراك بغداد فضلا عن الموظفين العاملين في المحاكم وعطلت الأعمال فيها , ولم يبق في بغداد سوى محكمة واحدة ومحكمة صلح واحدة ,وانشغل المحتلون أولاً بإكمال إجراءات السيطرة على باقي الأراضي العراقية.

وعندما تمت للبريطانيين السيطرة على معظم الأراضي العراقية تولى الإدارة المدنية فيها السير (بيرسي كوكس)وبطريق الإدارة المركزية بصفته ممثلاً للتاج البريطاني , وبقدر تعلق الأمر بالموضوع القضائي , فقد استعان الأخير بخبرة السير (ادكار كارتر) إذ وضع دراسة حول وضع المحاكم في العراق , تلى ذلك صدور البيان الشهير المسمى (بيان تشكيل المحاكم ) الصادر بتاريخ 28/كانون الأول /1917 والمتداول في أروقة المحاكم حتى يومنا هذا والمعروف باسم بيان المحاكم ,إذ لازالت البعض من نصوصه سارية المفعول حتى الوقت الحاضر , وبموجبه تم إشراك قضاة انكليز قضاة عراقيين في مباشرة اعمال المحاكم .

وبموجب الوضع السياسي الجديد فقد تم وضع نظام قانوني موحد لولايات بغداد والموصل والبصرة تحت إدارة واحدة رأسها البريطاني السير (ادكار كارتر )سميت إدارة الشؤون العدلية التي أخذت على عاتقها إلغاء قانون الجزاء العثماني, ووضع قانون عقوبات جديد بتاريخ 21/تشرين الثاني /1918 سمي بقانون (العقوبات البغدادي) الذي بقي ساري المفعول مدة طويلة نسبياً حتى الغاءه بموجب القانون الحالي (قانون العقوبات) الصادر برقم 111 لسنة 1969.

ومن مراجعة التشريعات آنذاك نجد أن نظام الحكم الذي وضعه البريطانيون في تلك الفترة يعتمد المركزية الإدارية . اما بالنسبة للشأن القضائي وبموجب بيان تشكيل المحاكم فقد تم تشكيل محكمة استئناف مقرها بغداد وهي المحكمة العليا لكافة المناطق الخاضعة للاحتلال وان قراراتها نهائية , كما تم تشكيل محاكم البداءة ومحاكم الصلح والمحاكم الشرعية ومحاكم الأحوال الشخصية لغير المسلمين إضافة لمحاكم الجزاء(4), وكانت المحاكم تلك تدار وتراقب من قبل الإدارة العدلية .

ثانياً

نظام الحكم في ظل الحكم الوطني

العهد الملكي

ان التشريعات المبكرة لإدارة الدولة العراقية كانت تنحى نحو الإدارة المركزية (فالملك هو رأس الدولة الأعلى وهو الذي يصدق على القوانين ويأمر بنشرها ويراقب تنفيذها , وبأمره توضع الأنظمة لأجل تطبيق أحكام القوانين ضمن ما هو مصرح فيها) الفقرة (ا) من المادة السادسة والعشرين من القانون الأساسي الصادر عام 1925 , كما ان (تعيين المناطق الإدارية وأنواعها وأسمائها وكيفية تأسيسها واختصاص موظفيها والقابهم تتم بقانون تصدره السلطة التشريعية , وتدار الشؤون البلدية بواسطة مجالس بلدية بموجب قانون خاص في المناطق الإدارية , وتقوم المجالس الإدارية بالوظائف التي تناط بها بموجب القانون ,المادة (111) من القانون الأساسي .

أما السلطة القضائية فيه فان تعيين الحكام يتم بإرادة ملكية ولا يعزلون إلا في الأحوال المصرحة في القانون المبينة فيه شروط  أهليتهم ونصبهم ودرجاتهم وكيفية عزلهم .

أخذ القانون الأساسي  بمبدأ الرقابة على دستورية القوانين واعتمد الرقابة القضائية في هذا المجال (5) ونص في المادة (81) منه على ان (تؤلف محكمة عليا لمحاكمة الوزراء وأعضاء مجلس الأمة المتهمين بجرائم سياسية أو بجرائم تتعلق بوظائفهم العامة ولمحاكمة حكام محكمة التمييز عن الجرائم الناشئة من وظائفهم وللبت بالأمور المتعلقة بتفسير هذا القانون وموافقة القوانين الأخرى لأحكامه).

وأن تشكيل هذه لمحكمة يتكون من ثمانية عدا الرئيس ينتخبهم مجلس الأعيان أربعة من بين أعضائه وأربعة من حكام محكمة التمييز أو غيرهم من كبار الحكام وتنعقد

برئاسة رئيس مجلس الأعيان .. والملاحظة الجديرة بالاعتبار هو ان الوزير يتصرف في جميع امور وزارته وما يتبعها .

إن أول قانون للإدارة صدر في ظل الحكم الوطني هو قانون إدارة الألوية (المحافظات حاليا)المرقم 58 لسنة 1927, الذي اعتمد نظام المركزية الإدارية ,فرأس الحكومة هناك هو المسؤول عن الإدارة العامة وهو المتصرف (المحافظ حاليا) , ويتم تعيينه في هذا المنصب بإرادة ملكية بناء على اقترح من وزير الداخلية وموافقة من مجلس الوزراء , المادة (10) من القانون , ويتم عزله أو إحالته على التقاعد بذات الية التعيين, وتتجلى المركزية في هذا القانون بأوضح صورها عندما يكون المتصرف هو ظل السلطة المركزية في اللواء, ومنفذ لسياستها, وطوع انظمتها وتعليماتها , ولا يحق له الخروج عن ارادتها ,أو يقوم بعمل خارج الصلاحيات التي منحتها له بالمصلحة مجرد ممثل لها , إذ كان القانون هنا صريحاً عندما نص على : ( المتصرف هو الموظف الاجرائي الأكبر في اللواء والمسؤول عن إدارته وهو نائب عن كل وزارة وممثل لها وعليه ان ينفذ القوانين داخل لوائه تنفيذاً تاماً ويقوم بالوظائف ويستعمل السلطات التي خوله إياها القانون ويحافظ على حقوق الاهلين والحكومة معاً وينفذ الأوامر والتعليمات الصادرة إليه من وزارات الدولة على اختلافها )المادة (22) من القانون.

أما بشأن السلطة القضائية في اللواء فهي خارج صلاحية التفتيش الممنوحة للمتصرف , إذ أن للأخير صلاحية تفتيش كافة الدوائر التابعة للواء والإشراف عليها, وله صلاحية مخاطبة أية وزارة بشأن الموظفين التابعين لها العاملين في اللواء الخاضعين لأمر المتصرف وهذا ما انصرفت إليه إرادة  المشرع عندما نص القانون على : (جميع فروع الدوائر في اللواء – عدا المحاكم – معرضة لتفتيش المتصرف وإشرافه وله فيما يخص إدارة لوائه من الشؤون ان يراسل أي وزير كان رأساً , كما أن الموظفين الملكيين خاضعون لأوامر المتصرف من الجهة العامة  إلا في المسائل المتعلقة بالنظام الداخلي لدوائرهم) المادة (26) من القانون , مما تقدم من هذا النص فان المتصرف لا ولاية له على المحاكم وهي خارج سلطته الإدارية المركزية ,إلا أن الغايات التي يتوخاها المتصرف في إدارة شؤون لوائه تجعله يهتم بنشر العدالة 

بكل سرعة وتسهيلها قدر المستطاع مراعياً في ذلك استقلال القضاة . المادة (23/5) من القانون.

الغي القانون رقم 58 لسنة 1927 بصدور قانون إدارة الأولية رقم (16) لسنة 1945 الذي ابقى على المركزية الإدارية التي نص على (يعين المتصرفون ويحولون بإرادة ملكية بناء على اقتراح وزير الداخلية  وموافقة مجلس الوزراء) المادة (10) من القانون , إذ أبقى على ذات النص الوارد في المادة (22) من القانون الملغي كون المتصرف هو الموظف الاجرائي الاكبر والمسؤول عن إرادته العامة وهو ممثل عن كل وزارة , كما أنه يشرف على كافة الدوائر المركزية التابعة للواء ويفتشها وهي جزء من الصلاحيات الممنوحة له لإدارة اللواء, وبموجب القانون فالموظفين المركزيين خاضعين لإدارته إلا في المسائل المتعلقة بالنظام الخاص لدوائرهم , واستثنى القانون المحاكم من الصلاحية الممنوحة له للتفتيش , المادة (27)من القانون , إلا أن هذا القانون أبقى للمتصرف الاهتمام بنشر العدالة وتسهيلها قدر المستطاع مراعياً في ذلك استقلال القضاء , وأن للمتصرف إعلام وزير العدلية عن سلوك الحكام والموظفين التابعين لها في لوائه لتتخذ ما يقتضي من الإجراءات القانونية , المادة (20) من القانون وهي نظيرة للمادة ذاتها في القانون الملغى.

وبهذا النص مكن المشرع السلطة التنفيذية من التدخل في شؤون المحاكم , إذ قد لا تخلو مخاطبة المتصرف لوزارة العدلية بشأن سلوك الحكام  من نوازع شخصية أو اغراض سلطوية , وبذلك فان هذا النص يهز استقلال القضاء الذي كفله القانون الأساسي وادى الى تركيز المركزية في شخص المتصرف.

ثالثاً

العهد الجمهوري

صدر قانون المحافظات رقم 59 لسنة 1969 الذي ابقى في المادة (9) على أن رئيس الوحدة الإدارية ممثلا السلطة التنفيذية , أن يقوم بالإشراف على تنفيذ سياسة الدولة وعلى فروع الوزارات فيها وموظفيها , إضافة الى أن تعيينه وترفيعه ونقله يتم بمرسوم جمهوري بناء على اقتراح من وزير الداخلية وموافقة مجلس الوزراء, وهو أعلى موظف في المحافظة المكلف بتنفيذ القوانين والأنظمة والتعليمات , والأوامر الصادرة عن الوزراء المعنيين, وله تفتيش الدوائر الموجودة في المحافظة والإشراف عليها.

وقد حاول المشرع في هذا القانون التخفيف من حدة المركزية (المتزمتة), عندما أعلن عن رغبته في تطوير النظم الإدارية بما يواكب الأساليب المتطورة في العالم الحديث محاولاً ولو –على صعيد التشريع حسب – إيجاد التشريعات التي تعتمد مبادئ اللامركزية الإدارية من أجل مساهمة الجماهير في أداء الخدمات العامة المحلية , هذا ما احتوته الأسباب الموجبة للقانون.

وتعزيزاً لهذا المبدأ فقد نص القانون على ان المحافظ هو رئيس مجلس المحافظة ونائبه هو أحد أعضاء المجالس من بين أعضائه ويحل محل الرئيس عند غيابه ,ويضاف لهم أعضاء منتخبون من مركز المحافظة ومن الوحدات الإدارية المركزية الملحقة بالمحافظة في حالة وجودها ,إضافة للأعضاء الدائميين وهم معاون المحافظ للإدارة المحلية ورؤساء الدوائر الفرعية في مركز المحافظة باعتبارهم ممثلين لدوائرهم ,وقد وضع القانون الشروط المطلوبة للعضو المنتخب وللناخب وبين القانون كذلك الاليات التي بموجبها تجري الانتخابات.

وبهذه النصوص فقد اعتقد المشرع انه يبتعد عن الإدارة المركزية ليقترب من الإدارة اللامركزية مادام ان قسماً من أعضاء المجلس يحتلون مواقعهم بالانتخاب, خاصة وأن القانون قد بين المهام التي  تناط بمجالس الوحدات الإدارية وهي مهام

واسعة وكثيرة , بعد ان بين في الفصل الخامس نقل الوظائف الى مجالس الوحدات الإدارية , بيد ان واقع الحال وعلى حد علمنا ان تلك النصوص لم يتم اعمالها وبقيت المركزية الإدارية وهي الصفة المطبقة فعلا.

أما النصوص القانونية المتعلقة بالقضاء فقد أبقت على ذات النصوص في القانونين السابقين وهي استثناء المحاكم من الاشراف والتفتيش السلطة المحلية, واستثناء الحكام والقضاة من أوامر سحب التي يوقعها المحافظ على موظفي محافظته.

لكن هذا القانون جاء بحكم جديد, ينال من استقلال القضاء عندما خول المحافظ الصلاحية الامرة للشرطة للتحقيق في الجرائم التي تقع في المحافظة وفق القانون وتقديمها الى قاضي التحقيق المختص وإعلامه النتيجة, المادة (31/1) من القانون.

قانون مجالس الشعب المحلية :

صدر هذا القانون برقم 25 ونشر في الجريدة الرسمية بتاريخ 25/كانون الأول /1995, إذ نصت المادة (1) منه على ان يكون لكل ناحية أو قضاء أو محافظة مجلس شعب محلي له شخصية معنوية ويكون مقره في مركز الوحدة الإدارية , ويتم تشكيل هذا المجلس من أعضاء دائمين باعتبارهم رؤساء لدوائرهم في الوحدة الإدارية, وبين القانون تفاصيل عن الأعضاء الدائميين في مراكز الوحدات الإدارية , وبمراجعة النصوص المتعلقة بهذا الموضوع نجد أن المشرع متمسك بمبدأ الإدارة المركزية, إذ خولت الفقرة الثانية من المادة (2) من القانون رئيس الجمهورية تسمية من يراه عضواً دائماً في مجلس الشعب المحلي  للمحافظة  وله ان يضيف أعضاء دائميين فيه يمثلون جهات أخرى غير منصوص عليها في المادة (7) من هذا القانون.

أما الأعضاء المنتخبون في مجلس الشعب المحلي فيجري انتخابهم بالاقتراع العام السري والمباشر , المادة (8) من القانون , وقد نص الباب الثاني من القانون على موضوع الانتخابات في المجالس كشروط المرشح والناخب والترشيح وموعد الانتخابات والهيئات الانتخابية وجدول الناخبين والتصويت والدعاية الانتخابية, وبعد

الاجراءات تلك والفوز بالانتخابات يترشح لعضوية المجلس يشكل مع الأعضاء الدائميين المجلس الذي قصده المشرع, والذي منح بموجب المادة (47) من القانون الصلاحيات البلدية التي يمارسها وهي إقرار الخرائط للمدينة وإنشاء الحدائق والمتنزهات وإنشاء المحلات والكراجات وتحديد الأماكن للسكن والمناطق الصناعية وإجازة المحلات ومراقبتها وبيع وتأجير أموال الدولة وسواها من الصلاحيات البلدية الأخرى إضافة الى الصلاحيات في مجال التربية والثقافة والشباب والأمن , وبهذا  فأن المشرع منح المجلس صلاحيات تنفيذية وبعبارة أخرى أنه منفذ لقرارات وبرامج المركز , اما التخطيط على صعيد التنمية والمشاريع التي تخدم الوحدة الإدارية فبقيت من صلاحيات المركز, وهو استمرار المشرع على تأكيد مبدأ المركزية الإدارية.

ومن مراجعة مواد القانون البالغة (102) مادة لم نجد في نصوصه ما يشير من قريب أو بعيد عن علاقة المحاكم بالمجالس المحلية فلن يرد بالصلاحيات الممنوحة لتلك المجالس المواد (48-66) صلاحيات رقابية أو تفتيشية على المحاكم او السلطة القضائية بشكل عام , بل بقي القضاء في منأى عن سيطرة السلطة التنفيذية.

رابعاً

اللامركزية الإدارية

9/ نيسان /2003

قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية

صدر قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية في اذار سنة 2004 , وهو ينص على مبدأ جديد لم تتضمنه التشريعات السابقة لصدوره , المتضمن تقاسم السلطات فيه بين الحكومة الاتحادية والحكومات الإقليمية والمحافظات والبلديات والإدارات المحلية ومعيار هذا التقسيم الحقائق الجغرافية والتاريخية , أي أنه أخرج من نطاق ذلك التقسيم الاعتبارات الاثنية أو المذهبية أو القومية أو العرقية, المادة (الرابعة من القانون , وبذلك فقد نصت المادة الخامسة والخمسون على:-  )يحق لكل محافظة تشكيل مجلس محافظة وتسمية محافظ وتشكيل مجالس بلدية ومحلية ولا يتم إقالة أي عضو في حكومة إقليم , أو أي محافظ أو عضو في أي من مجالس المحافظة أو البلدية أو المحلية على يد الحكومة المحلية أو على يد أحد مسؤوليها , إلا إذا أدين من قبل محكمة ذات اختصاص بجريمة وفقاً للقانون , كما لا يجوز لحكومة الإقليم عزل المحافظ أو عضو من أعضائه من مجالس المحافظة أو البلدية أو المحلية , ولا يكون أي محافظ أو أي عضو في مجالس المحافظة أو البلدية أو المحلية خاضعاً لسيطرة الحكومة الاتحادية , إلا بقدر ما يتعلق الأمر بالصلاحيات المبينة في المادة 25 والمادة 3/د أعلاه ) .

وبموجب هذا القانون فان أعمال الوزارات داخل المحافظات ووضع الخطط السنوية وميزانيتها وكل نشاطاتها , تتم على أساس مبدأ التنسيق مع مجالس المحافظات , وللأخيرة الحصول على إيرادات مالية مستقلة عن طريق فرض الضرائب فضلاً عما هو مخصص لها في الميزانية العمومية للدولة , ولها كذلك إنشاء مشروعات في المحافظة وأية نشاطات تتفق مع القوانين , إضافة لما تقدم فللحكومة

المركزية منح مجالس المحافظات سلطات اضافية تتمكن من  خلالها إنجاز ما موكل إليها من نشاطات وعل أساس اللامركزية .

ما تقدم يتضح:-

  1. الخروج ولأول مرة من نطاق التشريعات السابقة التي تتبنى موضوع الإدارة المركزية والتأسيس لمبدأ اللامركزية الإدارية .
  2. يتم تشكيل مجلس المحافظات وتعيين القيادات من قبل المحافظات ذاتها خلافا لما استقرت عليها التشريعات السابقة التي تقوم به السلطة المركزية بتعيين غالب أعضاء المجالسة إضافة الى الأعضاء فيه الذين هم ممثلون للوزارات في المحافظة .
  3. تضع الوزارات خططها وبرامجها بناء على الحاجة الفعلية للمحافظة, وبالتنسيق مع المحافظات وليس خططاً وبرامج تنزل من علياء الوزارات لتلبسها للمحافظات.
  4. القسم الغالب من الصلاحيات يكون لمجالس المحافظات , وبذلك فأن الكثير من الصلاحيات قد خرج من يد الحكومة المركزية , خاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن المادة الخامسة والعشرين قد بينت حصراً الصلاحيات الممنوحة للحكومة العراقية وهي رسم السياسة الخارجية وتنفيذ السياسة الأمنية ورسم السياسة المالية وتنظيم أمور المقاييس والأوزان, والتشاور مع المحافظات بشأن إدارة الثروات الطبيعية وتنظيم أمر الجنسية وسياسة الاتصالات , وما عدا  ما ذكر من صلاحيات على سبيل الحصر فيعود للمحافظات , إذ نصت المادة (السابعة والخمسون )على :- ( أن جميع الصلاحيات التي لا تعود حصراً للحكومة العراقية الانتقالية يجوز ممارستها من قبل حكومات الأقاليم والمحافظات..) , وهذا الأمر لم يكن معروفاً في التشريعات السابقة.

وإذا كانت هذه النصوص هي اللبنات الأولى للبناء المؤسسي للامركزية الإدارية , إلا أن القانون ذاته أخرج السلطة القضائية من نطاق اللامركزية الإدارية, كونه مستقلاً ولا يدار بأي شكل من الأشكال من السلطة التنفيذية بما في ذلك وزارة العدل, وهذه سابقة تشريعية على صعيد المحيط الإقليمي للعراق , وجعل تأسيس

المحاكم حصرا من اختصاص الحكومة الاتحادية , وبهذا فلا صلاحيات للمحافظات ومجالسها بتأسيس المحاكم , المادة (الثالثة والأربعون ) من القانون .

ومن خلال قراءة النصوص بشأن استقلال القضاء نجدها تؤشر لملامح ذلك الاستقلال المبني على ركائز ثلاث, الأولى هي الاستقلال المؤسسي المتمثل باستقلال السلطة القضائية وفك ارتباطها من السلطة التنفيذية بما في ذلك وزارة  العدل , وبوجب هذا القانون فلا ولاية لوزارة العدل على السلطة القضائية .

أما الركيزة الثانية فهي الاستقلال المالي, فقد نصت الفقرة (ج) من المادة المذكورة أعلاه على :- ( تضع الجمعية الوطنية ميزانية مستقلة ووافية للقضاء ), وبذلك تخرج السلطة القضائية مالياً من هيمنة الحكومة على مفردات وفصول الميزانية العامة.

أما الركيزة الثالثة : الاستقلال في إصدار الأحكام بعيداً عن تدخل السلطتين التشريعية أو التنفيذية وحسبما تقتضيه نص الفقرة (أ) من المادة ذاتها.

الأمر رقم (71) لسنة 2004

صدر أمر سلطة الائتلاف المؤقتة بالرقم 71 في 6/ نيسان /2004 تنفيذاً للمرجعيات القانونية الواردة في أحكام قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية – حسبما جاء في ديباجته- المتضمن صلاحيات ومسؤوليات المحافظة المبنية على مبدأ اللامركزية في السلطات الحكم الواردة فيه .

إذ نص في القسم (2) على تشكيل مجلس محافظة في كل محافظة وبموازنة منفصلة عن موازنات الوزارات والجهات الاخرى غير المرتبطة بوزارة ,ويتم تمويل موازنة المحافظة من ميزانية الدولة , ويقوم مجلس المحافظة بممارسة أنشطته ومسؤولياته بعيدا عن إشراف وسيطرة الموظفين الممثلين لوزاراتهم في المحافظة , لابل أن  لمجلس المحافظة عدم قبول هؤلاء الموظفين المبعوثين من قبل وزاراتهم إذا

ما وجد المجلس سبباً لذلك على أن يصدر  القرار بأغلبية الأصوات , وبينت النصوص كذلك , الالية التي يتم بموجبها اختيار المحافظ ونائبه ,وخلافاً للنصوص القانونية السابقة, إذ خول القانون مجلس المحافظة الاختيار والتعيين.

وبين الأمر ان المحافظ هو المسؤول المدني  الأعلى في المحافظة وهو المنسق والمراقب والموجه للنشاطات في المحافظة وتشجيع التنمية بشكل كامل وتطبيق السياسات الخاصة بذلك, والقائم بتنفيذ قرارات مجلس المحافظة ويكون مسؤول أمامه , وبين الأمر كذلك الية تعيين وكيل المحافظ واختصاصاته , إذ يكون مسؤولا أمام المحافظ , أما تعيين الموظفين في المحافظة فيتم من قبل المحافظ , على ان يخضع تعيين المدراء العامين العاملين مباشرة في ملاك المحافظة والمناصب العليا لمصادقة اغلبية الأصوات في مجلس المحافظة خلال مدة بينها هذا التشريع.

وبينت النصوص كذلك كيفية تشكيل المجالس الفرعية وتعيين رؤساء الوحدات الإدارية (القائممقام , مدير الناحية ) وطريقة عملهم وصلاحياتهم ومراقبتهم, والطريقة التي يتم بموجبها تعيين مدراء الشرطة.

ثم بين القسم (7)من الأمر , الكيفية التي يتم فيها عزل أعضاء مجلس المحافظة والمحافظين ووكلائهم وأعضاء المجالس المحلية على أن يجري ذلك بقرار مسبب, كسوء السلوك أو عدم الكفاءة أو سوء استخدام الموقع الوظيفي أو الاهمال أو التقصير في أداء واجبات وظيفته, أو أية من أسباب أخرى مقنعة توجب العزل.

يعتبر هذا الامر خطوة للأخذ باللامركزية الإدارية خاصة وأنه قد علق العمل بقانون المحافظات رقم (159) لسنة 1969 إذ أن الأخير كان قانوناً يشرعن للمركزية الإدارية.

ومن خلال تصفح هذا التشريع لم نجد في نصوصه ما يشيرمن قريب أو بعيد الى السلطة القضائية وموقعها في المحافظة وطريقة تشكيل المحاكم وتعيين القضاة, فهو وحسب نصوصه قد نأى عن تناول السلطة القضائية وترك أحكامها لما هو نافذ من النصوص.

الدستور الدائم 2005

ان انتخاب المواطنين لممثليهم في مجلس الوحدات الإدارية , يندرج في موضوع التوجه نحو الديمقراطية الذي يمكن المجالس  تلك من مسك الإدارة  في الوحدة الإدارية على وفق مبدأ اللامركزية الإدارية التي هي واحدة من تطبيقات الديمقراطية في النظم الإدارية , مع الأخذ بالاعتبار التنسيق مع السلطة المركزية والخضوع لرقابتها ليس باعتبار الأخيرة فوضت صلاحياتها الى المجالس المحلية , بل باعتباره سلطة اصيلة مستمدة صلاحياتها من ناخبيها , وكثيرا ما يتعثر هذا التوجه بسبب غياب التنسيق مع السلطة المركزية وسلطتها الرقابية الأمر الذي يؤدي الى تحرك الهويات الجزئية (العشيرة, الطائفة , المذهب) وعلى حساب المواطنة الذي يلقي بظلاله السلبية على وحدة الدولة وتماسكها.

إن دستور الدائم 2005 استمد أحكامه من مرجعيات عديدة منها على سبيل المثال المبادئ العامة لحقوق الانسان الواردة في الاتفاقيات الدولية المصادق عليها من قبل العراق , وبعض احكام الدساتير السابقة , وقدر تعلق الامر بموضوعنا هذا فقد استمد دستور 2005 مبدأ اللامركزية الإدارية من قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية وخاصة حكم المادة (الرابعة) منه التي تنص على تقاسم السلطة بين الحكومة الاتحادية والحكومات الإقليمية والمحافظات, فضلاً عما جاء به القسم (2) من الامر 71 لسنة 2004 حول تشكيل المحافظات والصلاحيات الممنوحة لمجالسها.

عليه فقد رسخ دستور 2005 مبدأ اللامركزية الإدارية من الوجهة التشريعية , بالاستناد لما سبقه من التشريعات المشار إليها أعلاه , إذ جاء النص واضحاً وصريحاً بحكم الفقرة ثانياً من المادة (122) من الدستور :- (تمنح المحافظات التي لم تنظم في إقليم الصلاحيات الادارية والمالية الواسعة وبما يمكنها من إدارة شؤونها على وفق مبدأ اللامركزية الإدارية وينظم ذلك بقانون).

وسنتناول هنا المحافظات غير المنتظمة بإقليم وإدارة شؤونها على وفق مبدأ اللامركزية الإدارية من دون المرور بإقليم كردستان الذي تحكمه الفيدرالية وهي مختلفة الطبع عن اللامركزية الإدارية, كما لانمر أيضا على الحقوق الإدارية التي منحها الدستور للقوميات الأخرى كالتركمان والكلدان والاشوريين موضوع المادة (125) من الدستور لكونهما خارج موضوعنا هذا.

وبقراءة لنص المادة (122) من الدستور نجده قد اقتصر اللامركزية الإدارية في الصلاحيات الإدارية والمالية حصراً , ولصراحة النص ووضوحه تجعل من غير الممكن الاجتهاد في مورد النص هذا, والصلاحيات الحصرية هنا تقابلها صلاحيات حصرية ايضاً للسلطة الاتحادية نصت عليها المادة (110) من الدستور وهي متكونة من عشر فقرات حصراً , الى هنا فلا إشكال في الموضوع , إلا أن الإشكال ينهض مع نص المادة (115) من الدستور (6) , التي تنص على :- (كل مالم  ينص عليه في الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية , يكون من صلاحيات الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة بإقليم , والصلاحيات الأخرى المشتركة بين الحكومة الاتحادية والاقاليم , وتكون الاولوية فيها لقانون الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة بإقليم , في حالة الخلاف بينهما).

وبقراءة لهذا النص نخلص بالاستنتاجات الاتية:-

  1. هذا النص يجعل المحافظات غير المنتظمة  بإقليم في ذات المرتبة التي يحتلها الإقليم , في الوقت الذي نجد فيه أن الوصف القانوني للفدرالية يختلف كثيرا عن الوصف القانوني للامركزية الإدارية, والاختلاف بينهما هنا في نوع السلطات الموزعة عليهما.
  2. ان نص المادة 115 من الدستور يمنح المحافظات غير المنتظمة بإقليم صلاحيات مضافة غير الصلاحيات الواردة في نص المادة 122 من الدستور والصلاحيات المشتركة.
  3. ان المادة المذكورة وعندما ساوت بين الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة بإقليم يعني منحها سلطات تشريعية أسوة بالأقاليم وهذا لم يرد في حكم المادة 122 الى حصر الصلاحيات بالإدارية والمالية.
  4. أن نص المادة 115 أعطى علوية للتشريعات الصادرة من المحافظات غير المنتظمة بإقليم على التشريعات الاتحادية , إذ جاء النص :- (وتكون الاولوية فيها لقانون الاقاليم والمحافظات غير المنتظمة  بإقليم )وهذا الوضع يعطي للمحافظة غير المنتظمة بإقليم وصف الدولة الكونفدرالية , وهي مرتبة أعلى من الفدرالية واللامركزية الإدارية التي قصدها الدستور.

هذه هي النصوص الدستورية التي أكدت مبدأ اللامركزية الإدارية في المحافظات غير المنتظمة بإقليم و إمكانية تقاسم السلطة بين الحكومة الاتحادية ومجالس المحافظات.

أما بالنسبة لموقع السلطة القضائية من النصوص الدستورية المتعلقة باللامركزية الإدارية فلم نجد أي نص في الدستور يربط السلطة القضائية لهذا المبدأ , لا بل أن النصوص ابعدتها عن ذلك عندما جاء النص بأن السلطة القضائية مستقلة , والقضاة مستقلون ولا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون, ولايجوز لأي سلطة التدخل في القضاء وشؤون العدالة , المادة(98) من الدستور, فضلاً على أن الدستور قد حسم هذا الامر بالنص على تولي مجلس القضاء الاعلى إدارة شؤون الهيئات القضائية , المادة (90) من الدستور.

قانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم

رقم  (21) لسنة 2008

بولادة عسيرة سببها التجاذبات والمشاكل بين القوى  السياسية , شرع قانون المحافظات غير المنتظمة  بإقليم , المرقم 21 لسنة 2008 المنشور في الوقائع  العراقية بالعدد 4070 في 31 /اذار/2008 تضمن أربعة أبواب , الأول , في المجالس وإجراءات تكوينها , وشروط العضوية وانتهائها , واختصاصات مجلس المحافظة والمجالس المحلية , والباب الثاني حول رؤساء الوحدات الإدارية وصلاحياتهم , والباب الثالث في الموارد المالية , أما الباب الأخير فنص على أحكام ختامية  , ومعلوم أن هذا القانون صدر تنفيذا لحكم الفقرة ثانياً من المادة (122) من الدستور.

بين الفصل الثاني من الباب الأول من القانون صلاحيات مجلس المحافظة وهي انتخاب رئيس المجلس ونائبيه, وطريقة إقالتهم , وانتخاب المحافظ ونائبيه , وله كذلك صلاحيات إعداد الموازنة , وله أيضا صلاحية الرقابة على أنشطة الهيئات التنفيذية المحلية ومن الصلاحيات أيضاً ما نصت عليه الفقرة ثالثا من المادة (7) من القانون وهي إصدار التشريعات المحلية والأنظمة والتعليمات لتنظيم الشؤون الإدارية والمالية بما يمكنها من إدارة شؤونها وفق مبدأ اللامركزية الإدارية , وهذا النص لا ينسجم وحكم الفقرة أولاً من المادة (61) من الدستور التي جعلت مجلس النواب مختصا بالتشريع دون سواه من السلطات الأخرى, إضافة الى النص المذكور لا ينسجم مع نص الفقرة ثالثا من المادة (80) من الدستور التي خولت مجلس الوزراء صلاحية إصدار الأنظمة والتعليمات والقرارات , بهدف تنفيذ القوانين.

ومن خلال قراءة نصوص هذا القانون نقف على ملاحظتين يمكن استخلاصهما من القراءة تلك وهما:-

الأولى –بينا سابقا أن أحد شروط اللامركزية الإدارية هو منح السلطة المركزية صلاحية المراقبة , ولم نجد هذه الصلاحية في ثنايا نصوص القانون, بل اكتفت

أحكامه بوجود هيئة تنسيق عليا بين المحافظات يرأسها رئيس مجلس الوزراء وعضوية المحافظين تختص بالنظر في شؤون المحافظات وإدارتها المحلية والتنسيق بينهما ومعالجة المشكلات والمعوقات التي تواجهها وما يتعلق بالشؤون المشتركة بين المحافظات, المادة(45) من القانون . وهذا يعني تخلف واحدة من الركائز التي تعتمده اللامركزية الإدارية.

الثانية- بينا ان واحداً من ركائز اللامركزية الإدارية وجود مصالح ذاتية نابعة من الوسط المحلي وتشكل جزء من معاناة هذه المحافظة أو تلك , إذ يجري رصدها ودراستها وتفكيكها من الوصول الى الحلول الناجعة عن طريق التشريع , إلا أن الملاحظ ان السلطة المركزية ومن دون الأخذ بهذا الاعتبار شرعت قانونا ومن موقعها العلوي والبسته الى كل المحافظات وبمقاس واحد, الأمر الذي جعله عرضة  للنقد وعدم القبول وسبب إشكالات كثيرة اضطرت معه السلطة المركزية الى محاولة اجراء التعديلات عليه.

السلطات القضائية والقانون رقم 21 لسنة 2008

لم يمنح القانون مجالس المحافظات أية سلطة في المحافظة صلاحية مراقبة أو تفتيش المحاكم وقد استثنت الفقرة سادساً من المادة (7) من القانون المحاكم من المراقبة التي يتمتع بها مجلس المحافظة على جميع أنشطة الهيئات التنفيذية , ومن باب أولى فقد استثنى القانون المحاكم من المراقبة الممنوحة للمحافظ. وبذلك فقد أخرجها من نطاق سريانه تيمناً بالنصوص الدستورية المرسخة لمبدأ استقلال القضاء, أولاً , ولكون مجلس القضاء الأعلى هو الذي يتولى إدارة الهيئات القضائية ثانيا, لذا فقد بقيت السلطة القضائية خارج نطاق سريان قانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم .

الخلاصة

تتخذ الأنظمة القضائية في الدول أشكالاً مختلفة تمليها طبيعة النظام السياسي في تلك الدول , إذ نجد المركزية قد طبقت في كل من النمسا وماليزيا, في حين أن دولاً أخرى تأخذ بمبدأ اللامركزية الإدارية , كما في الولايات المتحدة الأمريكية , حيث أن للعديد من الولايات قوانينها الخاصة بها وأنظمتها القضائية (7), إضافة أن هناك دول اتبعت نظاماً قضائياً مختلفاً سمي بالنظام المختلط وهو مزيج من المركزية واللامركزية كما هو الحال في الهند, وتوجد دول تتحول من النظم اللامركزية الى النظم المركزية وعلى سبيل المثال مثل سويسرا, فقد كان لكل إقليم نظام يختلف عن الإقليم الاخر إلا أنها تركت هذا النظام وقامت بإجراء تم من خلاله توحيد قوانينها القضائية من أجل ممارسة القانون والإدارة بشكل افضل (8) . أما في العراق وطيلة عمر الدولة العراقية ومن خلال الدساتير ابتداء من القانون الأساسي عام 1935, و ما جاء بأحكام الدستور الدائم 2005 والقوانين الملحقة بها, وحسب ما مبين في الصفحات السابقة , فإنها اعتمدت مبدأ المركزية الإدارية وبشكلها العالي في إدارة المحافظات , وقد كانت السلطة القضائية بمنأى عن السلطة المحلية المركزية ولها نظامها الخاص المستقل عن سلطات الإدارات المحلية.

أما مبدأ اللامركزية الإدارية التي جاءت أحكامه لأول مرة في قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية فقد أسس لهذا الموضوع, وقد أخذ عنه الدستور الدائم هذا المبدأ ومن ثم القانون رقم 21 لسنة 2008, وهو نظام لم يبلغ مرحلة الفطام بعد على صعيد تطبيقه في الأمور الإدارية والمالية.

ولايمكن الحديث عن شمول القضاء بهذا المبدأ لصراحة النصوص الدستورية المادة (90) والقانونية التي جعلت السلطة القضائية خارج هذا الموضوع , إذ نص الدستور على ولاية مجلس القضاء الأعلى في إدارة شؤون الهيئات القضائية وهو بذلك يتبع المركزية في إدارة الشأن القضائي عن طريق مجلس القضاء الأعلى, وبذلك فالمشرع اعتبر القضاء مرفقاً عاماً أسوة بالجيش , وأخرجه من ولاية سلطات المحافظات مركزية أو لا مركزية.

الهوامش:-

  1. أ.د.منذر الشاوي- تأملات في أنواع الدولة – مجلة القضاء والتشريع– السنة الثانية, العدد الرابع 2010, ص17.
  2. أ.د. غازي فيصل مهدي –نظاما الفدرالية واللامركزية في دستور جمهورية العراق –مجلة التشريع والقضاء –السنة الثانية, العدد الرابع, 2010, ص31.
  3. القاضي مدحت المحمود- القضاء في العراق-بغداد 2010, ص 17.
  4. القاضي مدحت المحمود , المصدر السابق , ص26.
  5. د.رعد الجدة –التطورات الدستورية في العراق –بغداد , بيت الحكمة,2004,ص19.
  6. د.زهير الحسني –اللامركزية الإدارية في النظام القانوني للمحافظات التي لم تنتظم بإقليم الموقع الالكتروني www.Ar.Jurispedia.org .
  7. باتريك جلين –تنسيق الهياكل القضائية –بحث مقدم الى المؤتمر القضائي الاتحادي –اربيل 28 و 29/اذار/2009- مجلة القضاء والتشريع –العدد الثالث 2009, ص10.
  8. البروفيسور د. توماس فلاينر- الأنظمة القضائية المختلفة للمحاكم في الدول الاتحادية –بحث مقدم للمؤتمر القضائي الاتحادي –اربيل 28 و29 /اذار /2009 –مجلة التشريع والقضاء , العدد الثالث 2009, ص 19.