(تداعيات ... تحية لموقع المحكمة الاتحادية العليا)

فتحي الجواري

١. الكبير يظل كبيرا

مدحت المحمود منذ اليوم الاول لتبوئه مهمة القضاء كان كبيرا ، واستمر كبيرا بهمته ، وخلقه ، وتواضعه ، وعلمه ، وحبه لعمله ، وخفضه لجناحه لزملائه ، وطلابه ، ومحبيه.

الكبير لا ينزل الى الاسفل ، بل يبقى محلقا في الاعالي متساميا عن الصغائر وتوافه الامور.

اما الصغير ، فيظل صغيرا حتى لو رفعته الصدفة الى اعالي السماء.

الكبير يظل كبيرا ان كان محلقا في اعالي السماء ، او كان على الارض مع بسطاء الناس ، من اصدقائه ومحبيه  .

هناك نوع من البشر كلما وجدوا الناس مجتمعين حول شخص ما اسرعوا  نحو دكان الحداد ليأتوا بحفنة من (السخام) ليلقوها عليه . فهؤلاء تحركهم نوازع الحقد والانتقاص من الآخرين . كلما ذكرت امامهم شيئا جميلا امعنوا في تقبيحه ، كلما ذكرت امامهم فكرة تستحق التقدير ، سحقوها بأقدامهم . كثيرا ما نصادف هؤلاء الذين لم يتركوا احدا دون ان يحاولوا تحطيمه . فهؤلاء لم يحسنوا شيئا سوى اتقان الرفض لكل شيء ، والاستخفاف بالآخرين ، متناسين العلاقات الانسانية والصداقات .

فلا تلتفت (يا سيدي) لقول الجاهلين ، فهذا حالهم اذا حكموا ، وهذا حال الجبناء ، اذا اقتدروا .

فــ ((لا تحزن ان الله معنا)) .

٢. الصديق الوفي :

كل شيء في هذه الايام له سعر ، الا الصديق الوفي .

فالصديق الوفي لا يقدر بثمن ، لأنه لا يضع علاقته بك في ميزان الارقام ، فلا يخطر في باله كم سيربح من صداقته معك ، او كم سيخسر ان استمرت صداقتكما . فتجده مستعدا ان يذهب للبحث عنك الى أي مكان قد يجدك فيه ، وهو على استعداد ان يبيع اعز ما يملك ليعينك ان كنت في حاجة الى العون ، بل قد يصل الامر بالصديق الوفي ان يهبك احدى كليتيه ان كنت في حاجة لها واكد العلم امكانية زرعها في جسدك .

ولان الايام جعلت من الصديق الوفي عملة نادرة في ايام جعلت لكل شيء سعرا ، وغاب عنا ذلك الفارس الذي يرفض ان يدخل (البورصة) ، فيضع لصداقته بك سعرا وثمنا ، فنجد ان (ونستون تشرشل) الذي عرف بتعبيراته الساخرة ، يصف الصداقة بانها ((بحث عن قطة سوداء ، في غرفة سوداء ، يبحث عنها رجل كفيف)) ، فقد اراد بوصفه هذا ان يقول لنا ان الصداقة الحقيقية هي امر يكاد ان يكون مستحيلا .

ولهذه الاستحالة نجد ان (بيل غيتس) ، رجل التكنولوجيا ، يعتبر ان ((الصديق المخلص هو اهم سهم يمكن للإنسان ان يستثمر فيه)) محفزا الناس على التمسك بالصديق الوفي لان ذلك لوحده يعيد لنا رونق العلاقات الانسانية السامية ، النبيلة ، الخالية من النفعية المادية .

لهذه الندرة ، ولهذه الاهمية علينا التمسك بالصديق الوفي ، فإن خلت الدنيا من صديق وفي ، فهي صدمة كبرى ، وخيبة أمل موجعة للقلب وللنفس ، ومع ذلك فالصداقة تجربة لابد ان نخوضها باستعداد لتلقي خيبة الامل .

٣. انا والآخرين :

متى استطعنا ان نرتقي بإنسانية الانسان ، فنتبنى قيما حضارية انجزتها الحضارة الانسانية ، نكون قد اسسنا لجسور بيننا وبين الآخرين ، فنلتقي بهم بفضل قيم انسانية ، قيم الخير  ، والحب ، والعدالة . تلك القيم التي تنبض في قلوب الناس الطيبين ، فتمحو الشوائب ، التي تنشر الكراهية ، لكن السؤال الذي يطرح نفسه لماذا يتمسك بعض الناس بقيم الخير والحب ؟ ولماذا بعض الناس ينأى عنها ، فينشرون التعصب والكراهية ؟

اليس الانسان هو المسؤول عن الارتقاء بقيمه ، مثلما هو المسؤول عن ترديها ؟

ان الجهل بالأخرين هو الذي يؤدي الى رفضهم . فالانفتاح على معرفة الاخرين هو الذي يؤدي الى الانفتاح الانساني ، لهذا كان الجهل قرين التعصب والكراهية ، فحين يفقد الانسان انسانيته ، يسخر معرفته لنفي الاخرين وتدميرهم .

فالانفتاح على الاخرين ، هو الذي يؤسس لانتعاش المشاعر الانسانية الايجابية ، التي تسهم في رسم صورة متوازنة للأخرين ، مثلما نحاول ان نرسمها لذواتنا ، مما يساعد على ان لانظلم الاخرين ، فنتحدث عن اخطائنا ، مثلما نتحدث عن اخطاء الاخرين  فنفسح المجال للرؤى المتعددة التي ترفض التسلط والهيمنة على الاخرين ، نفسح المجال لوجهة النظر المخالفة لنا فنقدمها وكأنها وجهة نظرنا نحن . وبذلك نسمع اصوات الاخرين بعيدا عن الكراهية . فنتيح  لوجهي الحياة فرصة التعبير فتتجسد لنا شخصية الاخرين ببعدها الانساني .

لهذا من المهم ان يعي كل منا ان تكون طروحاته بريئة من التعصب والكراهية للأخرين ، وتبتعد عن الاحكام المسبقة التي يتضح انها منحرفة يقصد منها تشويه الاخرين وقمعهم  .

٤. الحوار

الحوار يجعل الغيوم تنقشع ، لكي نرى ما يحدث لنا وحولنا بطريقة واضحة . الحوار هو القوة الكبرى القادرة على الوصول الى جوهر الاشياء ، لانتزاع الاخطاء من مكانها ووضعها امام الناس في وضح النهار . الحوار هو الذي يمنع تراكم الاخطاء المعطلة لمسيرة الحياة . الحوار لم يعد ترفا ، فهو ضد الاسوار التي يتمرس خلفها بعض الناس ، ويحتمون بها من قيم الحرية . الحوار نقيض الكراهية ، والعزلة ، والانطوائية . الحوار يبني الجسور وهو نقيض التخويف ، والترويع ، وبث الدسائس ، ورجم الناس ، واثارة الضغائن ، ونبش الماضي وتجريح المشاعر ، وتقسيم المجتمعات ، وتفتيت اواصر الناس .

من الحوار تنطلق كلمات جميلة هي مرآة القلوب الشجاعة ، فالحوار هو دليل سمو وحب ، والتأكيد على اننا تفوقنا على الشر والكراهية ونبذ الآخرين ، ورفعنا عاليا قيم التسامح وثقافة المشاركة .

٥. الفساد

الفساد سبب رئيس في تنامي شعور الناس بالظلم والقهر . والتمادي في الفساد ، يؤدي الى الاحتقان والحقد ، ويثبط من عزيمة الذين يريدون الاصلاح . فلتتوحد جهودنا لمحاربة الفساد ، والنيل من المفسدين .

حوالي عام 800 قبل الميلاد عرف الشاعر (هيسيود) ان قاضيا مرتشيا حرمه من ميراثه ، فلم يكن امامه سوى ان يخلد ذكرى خسارته لميراثه شعرا فقال (( تصيح العدالة حين يجرها المرتشون الذين يصدرون احكاما ملتوية ، عندما يتولون منصبا قضائيا)) . واخذ العالم يدرك مضامين ابيات ذلك الشاعر ((اطع العدالة ، واكبح العمل السيء ، لأنه يؤذي الفقراء ، كما ان النبلاء يجدونه ايضا عبئا مقيتا يثقل حمله ويتسبب في خرابهم)) .

٦. لننتبه لمن لا يمتلك شيئا (لنتذكر بوعزيزي)  

كل مواطن لابد ان يمتلك شيئا ليصبح لحياته معنى . اذا لم يمتلك الانسان بيتا وعملا وأملا ومدرسة لأطفاله  ، فلن يجد امامه سوى العنف والعدوان ، وسيجد من يمده بالأدوات اللازمة لذلك . عندما لا يمتلك الانسان قطعة ارض على الارض ، فمن المؤكد انه سيبحث عنها في السماء . عندما يعجز الانسان عن الحياة ، فلا بد انه سيبحث عن الموت ، بمسميات أخرى . 

ايها القارئ :

هذه ليست دعوة للتفكير ، بل هي دعوة للإعادة التفكير . إذ ليس من الجائز ان نرغم الناس على ان يعيشوا في القرون الوسطى بينما هم مؤهلون لحياة هذا العصر ، وقادرون على اعطاء الكثير . لابد ان يحظى كل عراقي بكل الحقوق التي يعرفها الناس ، نعم كل الحقوق . فليس من العدل ان نرغم البشر على ان يعيشوا حياة متخلفة ، فعاشوا هذه الحياة ، لانهم لم تسنح لهم الفرصة لكي يعرفوا غيرها .

 لقد جاء الوقت للتحرر من الخوف ((لأن الخائفين لن تقوى ايديهم المرتعشة على البناء – جمال عبد الناصر – فلسفة الثورة)).