فتحي الجواري

حين شنت الهجمة الهوجاء على القضاء ، فكرت ان اكتب خاطرة عن ذلك . فطرأ في بالي عنوان لها هو (رفقا بالقضاء) . وكانت منطلقاتي في اختيار ذلك العنوان ، حرصي على ان يظل القضاء بعيدا عن الشبهات . فالقضاء منذ وجد كان القائمون على ادارته يحرصون جهد امكانهم ان يظل القضاء نقيا قدر الامكان ، ولم يكن ذلك الحرص يعود لانحيازهم للقضاء ، بل كان ذلك لكي تبقى ثقة المواطن بالقضاء عالية.

فالقضاء حصن المواطن ، يلجأ اليه ساعة يشعر ان حقه قد اهدر ، او ان حريته مهددة . فإذا لم يكن للمواطن من ملجأ ، فلمن سيلجأ ؟ هل يعود لعصر الغابة ليقتضي حقه بيديه ؟ لهذا تحرص الامم والشعوب ان تصون القضاء وتحمي القضاة . فلا خشية من القضاء على حقوق المواطن ما دام القضاء يعمل علنا وعلى رؤوس الاشهاد ، وما دام القرار الذي يصدره القضاء عرضة للتدقيق والتمحيص من جهات قضائية اعلى تصحح الخطأ ، وتقوم المعوج ، وتدرأ ما قد يهدر الحقوق ، او يسلب الحريات.

هذه حقائق لاجدال فيها ، واذا كان للبعض من مآخذ على هذا القاضي أو ذاك ، او هذا القرار ، اوغيره ، فجل من لايخطأ . والضمان موجود في طرق الطعن التي رسمها القانون سبيلا لمن يعتقد ان القضاء لم ينصفه . وهذا نبينا الكريم (ص) يقول : ((انما انا بشر وانه ليأتيني الخصوم ولعل بعضهم ابلغ من بعض فأحسب انه صادق ، فأقضي له بما قضيت له بحق مسلم فإن هي قطعة من النار فليحملها اوليذرها)) فنبي الله يقضي بناءا على الادلة التي قدمها الخصم الذي قد يكون كاذبا ، فما قولك في القضاة ؟  ثم ان القضاء اجتهاد ، وقد رسم السلف الصالح الطريق للقضاة ليجتهدوا ، فهل غاب عنا توجيه الرسول الكريم (لمعاذ بن جبل) حين بعثه قاضيا على بلاد اليمن ، الم يقره على ان يجتهد برأيه ؟ والمجتهد قد يصيب ، وقد يخطأ . فمن اصاب له اجران ، ومن أخطا له أجر ! فلا يحرم من اجتهد برأيه من الاجر والثواب ، اصاب ،او اخطأ .

فلم هذه الحملة الهوجاء على القضاء ؟ ولمصلحة من ؟

هكذا تساءلت وقبل ان ابدأ بالكتابة للرد على هذه الحملة ، وادعو للرفق بالقضاء ، لان في ذلك الرفق ، الرفق بالمواطن الذي يجد في القضاء ملاذه ، وحصنه ، فوجئت بتحول الهجمة الهوجاء الى رمز من رموز القضاء ، بل هو قبل ان يكون رمز للقضاء فهو رمز من رموز الوطن .

لازالت في بالي صورة الاخ ، والاب ، والمعلم (مدحت المحمود) حين وقف يوم 28/حزيران/2004 ليتسلم من المدير الاداري لسلطة الاحتلال (خطاب)  انتهاء سلطة (الاحتلال) ، وتولي حكومة عراقية السلطة السيادية الكاملة ، فكان ذلك (الخطاب)  علامة على نهاية الاحتلال وبداية طريق الحرية . فكان (مدحت المحمود) أول قاض عراقي في العصر الحديث يكون له شرف حضور ذلك اليوم المشهود ، وشرف تسلم ذلك الخطاب وتسليمه الى الرئيس العراقي (الشيخ غازي عجيل الياور) ، ثم كان لهذا القاضي النبيل  شرف وقوف رموز السلطة التنفيذية امامه ، ليؤدوا يمين الولاء لعراق اتحادي ديمقراطي .

هذا هو (مدحت المحمود) الذي هو (محمود) في الدنيا الفانية ، وارجو وان يكون (محمودا) في الآخرة ان شاء الله ، الرجل الذي اطلقت عليه الصحافة العالمية (وبحق) (كبير قضاة العراق) ، (مدحت المحمود) الذي كان رئيس جمهورية العراق الاستاذ (جلال طالباني) متعه الله بالصحة وشافاه ، يحرص ان يطلق عليه تسمية (قاضي القضاة) .

هذا الرجل الذي مذ عرفته ظل بابه مفتوحا ، للعلم ، والحكمة ، والمشورة وللرأي الصائب ، وسعة الصدر ، والصبر ، والتحمل . رجل اجتمعت فيه هذه الخصال النبيلة ، هي التي اعانته على ان يقود مسيرة القضاء ، من قضاء كان يعمل في ظل نظام شمولي لايعرف لاستقلال القضاء معنى ، الى قضاء مستقل قولا وفعلا في ظل نظام برلماني ديمقراطي اتحادي ، فكان الطود الشامخ الذي حال دون ان ينجرف القضاء في خضم التجاذبات السياسية ، والاهواء ، وان يبقى القضاء ملاذا ، وموئلا ، وحصنا ، للمتعطشين للعدالة ، ولحكم القانون . فشيد مؤسسة قضائية مستقلة ، اشاد بها العالم ومؤسساته القضائية . فقاد سفينة القضاء بنجاح في هذا الموج المتلاطم ، ليصل بها الى شاطيء السلامة . فكان ان نشأ على يديه ، وفي ظل فكره ، ورؤيته الموضوعية للواقع المحيط به ، قضاء نزع عن كاهله الفكر الشمولي ، والخوف من الحاكم المتسلط . 

هذا هو (مدحت المحمود) رجل من هذا الزمان ، اجتهد فاصاب فله اجران من الله ان شاء الرب الكريم ،  وذكرى طيبة في نفوس المتعطشين للحق والعدالة . فهذا حسبه  ، فهو رجل ككل رجال هذه الدنيا الفانية اليوم معنا ، والغد في عالم الغيب ، الا انه في كل الاحوال ترك ، وسيترك اثرا طيبا في نفوس كل من عرفه ، وكان على صلة قريبة منه ، فاصبح الرمز الابهى من رموز هذا الوطن ، وسيبقى هذا الرمز نظيفا لاتشوبه شائبة، وستظل صورته ناصعة في عيون مواطنيه وعيون محبيه وعارفي فضله . وسيذكره التاريخ وينصفه بعد ان حاول البعض عبر هذه الهجمة الهوجاء ان يحجبوا الحقيقة عن اعين الناس ، الا ان الحقيقة كالشمس الساطعة لايحجبها الغربال . 

اني حين ادعو لدرء ما قد يلحق هذا الرجل من حزن والم جراء هذه الحملة الظالمة ، فإن ذلك لاننا نعيش ونحيا في عالم من الرموز ، رموز القوة ، والحكمة والبطولة ، والعدالة ، والمعرفة ، والعبقرية ، فكل هذه الرموز تشعر الناس بالقوة والتماسك . فإن دمرنا هذه الرموز فلن يشعر الانسان الا باليأس والضياع ، وان حدث ذلك فانه سيطلق قوى الشر والعدوان فيتحول الانسان الى العدوانية واليأس .

فماحال مجتمع فقد احترامه لرموزه واضاع قيم مجتمعه من صدق ،وامانة ، وشجاعة ؟

فإن سقطت الرموز في اي مجتمع ، فيا ترى كيف سيكون حال هذا المجتمع ؟ 

الجميع يعلم ان مهمة القضاء اقرار العدل ، فكيف سيكون حال القضاء  وهو يتعرض لهذه الهجمة الشرسة التي تشل العقل ، وتجعل اليد التي كلفت ان تحقق العدل ترتجف ، وتتوقف عن مهمتها النبيلة السامية ؟

هل يجوز ان يعامل القضاء بهذه الصورة ؟ فآليات التفكير عند الانسان الفرد هي بذاتها عند المجتمع بل عند اية فئة اجتماعية والقضاة من بينهم  مثلا . فالهجمة على رئيس القضاء لمحاولة اثنائه عن الاستمرار بمهامه ماهو الا عدوان على رمز كبير من رموز هذا الوطن . او على الاقل رمز لفئة من فئات هذا المجتمع ، وهم القضاة . ولست ادري كيف نطلب من القضاة ان يقضوا بالحق ورمزهم يتعرض للعدوان . اقولها بحق وصدق ، لقد شعرت بالتعاسة والضياع وانا ارى هذه الهجمة الشرسة توجه سهامها لرمز اكن له كل الاحترام والتبجيل .

هل يجوز ان يعامل هذا الرمز ، وكل رمز بهذه الوحشية . هل هو امر مقصود ان يسقط هذا الرمز ، وهو من اكثر الرموز نبلا في عصرنا الحديث ، واقصد به القاضي الطبيعي ، ومنفذ القانون الطبيعي ، وفي غياب الدفاع الطبيعي ،  وذلك لاسباب شخصية ، وسياسية بلهاء  . ففي مثل هذه الحالة الهوجاء يحرم الانسان من حق الدفاع عن النفس ، وهو من اكثر حقوق البشر قداسة . فماذا يمكن للانسان ان يفعل اتجاه قوى الحقد والبغضاء ، تجاه القوة الغاشمة العمياء ، التي تحركها نوازع الحقد والكراهية ، الا ان يقول : انا لله وانا اليه راجعون .

هل في ذلك تمهيد لضرب كل الرموز الشريفة في هذا الوطن ، لتتسع دائرة الضياع لتشمل كل المؤسسات  والقضائية على رأسها ؟ ، لتشمل كل شيء نظيف وجميل في هذا الوطن ؟ 

انما يجري اليوم اتجاه هذا الرمز ، يدل على مدى الغربة التي نشأت بيننا وبين النظام القانوني خلال نصف قرن من غياب اي شكل من اشكال القوانين العامة . فبدل ان تنشأ في العلن معارضات تعرف اهمية العلاقات البشرية السوية ، واصول الواجبات والحقوق ، صعدت الى السطح هذه الحركات الهوجاء التي لاتعرف سوى الغاء الاخر وتدميره .فهذه هي ثقافة الديمقراطية التي تعلمها البعض من الانظمة الشمولية ، ثقافة اساسها ان  يكون اول ما تفعله هو الغاء الاخرين ، وتدميرهم  .

الا يحق لنا اذن ان نخشى على الدولة ومؤسساتها . نخشى على قيمنا .  نخشى على رموزنا.